الشيخ أحمد بن يحيى النّجمي رحمه اللّه
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نبينا محمد، وعلى آله وصحبه،
وبعد،
من يقول أنَّ الصحابة اختلفوا في العقيدة فليُدعِّم قوله
بالأدلة وإلاَّ فهو كذَّابٌ مفتر، وإنَّه لايُعلم أنَّ أحدًا قال: إنَّ الصحابة اختلفوا
في العقيدة غير هذا القائل المفتري، بل إنَّ قول النَّبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا
تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة(1)
وقد اقتتل علي بن أبي طالب، ومعاوية -رضي الله عنهما-، ولَم
يَختلفوا في شيءٍ من العقيدة؛ بل كانوا كلهم يقول: بأنَّ الله ربُّهم، ومحمدا نبيهم،
والقرآن إمامهم، والكعبة قبلتهم، وأنَّ التحاكم يجب أن يكون إلى الله ورسوله دون من
سواهما؛ بل لَم يختلفوا في جزئيةٍ من العقيدة،
وإنَّما إختلافهم وجهات نظر، وفي قول النَّبِي صلّى اللّه
عليه وسلّم في حديث الافتراق، وقوله عن الفئة الناجية الَّتِي تدخل الجنة دون الثنتين
والسبعين حين قال: كلها في النار إلاَّ واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: هم
الذين على مثل ما أنا عليه وأصحابي(2)وهذا معناه أنَّهم الناجون من الاختلاف دون سائر
الفئات.
وأنَّ من يقول أنَّ الصحابة اختلفوا في العقيدة، قوله هذا
مستلزمٌ أنَّ النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم قد أحال على الاختلاف الذي عابه الله
في كتابه على من قبلنا حيث يقول: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [4] وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ
وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:4-5]: أي الله جلّ وعلا أمرهم بالإخلاص، وجمع
الكلمة على التوحيد، وإقامة الصلاة، ومثل ذلك الآيات في سورة الجاثية من قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ[16]وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ
مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ[17] ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ[18]إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ
وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾[الجاثية:16-19].
وقد أضاف إلى فريته وكذبه؛ الكيد، والدس، والتضليل،ومعنى
ذلك أنَّه يشجع على الاختلاف، ويدعوا إليه، ويستدل عليه أنَّ الصحابة كانوا مختلفين
في العقيدة؛ ليصرف أهل السنة والجماعة عن الحق إلى الباطل، وهذه مُخالفةٌ لكتاب الله
حيث يقول: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[الانبياء:92]،
ومُخالفةٌ لسنة رسول الله ج حيث يقول -صلوات الله وسلامه عليه-:فإنَّه من يعش منكم
فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ،
وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلُّ بدعةٍ ضلالة (3) ومُخالَفةٌ
لإجماع السلف الصالح
إنَّ هذا القائل سَهُل عليه الكذب، والافتراء إلى هذا الحد:
يفتري على أصحاب النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم؟! فلْيُسأل كيف كانوا أصحاب رسول الله
صلّى اللّه عليه وسلّم حين كانوا يجاهدون الناس على الدخول في دين الله
أكانوا يجاهدون على عقيدة مختلفة ؟
لا؛ لا؛ لَم يكن أصحاب النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم يجاهدون
إلاَّ على دين واحدٍ، وعقيدةٍ واحدة، ففتحوا البلاد من المحيط الأطلسي إلى الصين.
إن هذا القائل الذي يقول: إن الصحابة اختلفوا في العقيدة؛
يجب أن يُسكَتْ، ويُمْنَع من الكلام في العقيدة؛ لأنه جاهل بِها.
إن قول النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم: لا تزال طائفة من
أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم(4)دالٌّ على أنَّهم هم على الحق، ومن
سواهم من أهل الاختلاف على الباطل؛ أما ما يحتج به هذا الغبي على اختلاف الصحابة؛ أنَّهم
اختلفوا هل رأى محمد ربه أم لَم يره ؟ فهذا من اختلاف الرواية، وهذا لايوجب اختلافًا
في العقيدة، فالصحابة يؤمنون كلهم أنَّه لن يرى أحدٌ ربه في هذه الحياة، وأن المؤمنين
يرون ربَّهم يوم القيامة إيْمانا بقول النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم: تعلموا أنه
لن يرى أحدٌ منكم ربهجل وعلاحتى يَموت (5) رواه مسلم. لا كما قالت المعتزلة أنه لا
يرى في الآخرة، وإنما اختلفوا هل أخبر النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه رأى ربه
أم لا ؟ فروى أبو ذررضي اللّه عنه أن النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: نور أنَّى
أراه (6) ومعنى هذه الرواية: كيف أراه.
ورواية أخرى: إني أراه (7) وهذه الرواية كأنَّها تثبت الرؤية،
وعبد الله ابن عباس أثبت الرؤية، ونفاها عبد الله بن مسعود وعائشة.
ولَم يوجب ذلك اختلافًا بينهم في العقيدة، قال إمام الأئمة
محمد ابن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد له: " باب ذكر أخبارٍ رويت عن عائشة
-رضي الله عنها- في إنكارها رؤية النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم تسليمًا قبل نزول
المنية بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم
إذ أنَّ أهل قبلتنا من الصحابة، والتابعات، والتابعين، ومن
بعدهم من شاهدنا من العلماء من أهل عصرنا لَم يختلفوا، ولَم يشُكُّوا، ولَم يرتابوا،
وأن جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم القيامة عيانًا". انتهى من توحيد ابن خزيمة
طبع المطبعة المنيرية عام (1354هـ) (ص 145)
أما الاختلاف في الأحكام الفرعية المبنية على الاجتهاد، فهذا
قد حصل بين الصحابة، فقال كلُّ واحدٍ منهم ما رأى أنَّه هو الحق، ولَم يعب أحدٌ منهم
على أحد، ولَم يعتب أحدٌ منهم على من خالفه؛
وأن مقصد هذا القائل المفتري أن يمهد للاختلافات الحزبية،وأثبت
على نفسه أنه حزبي،ولَم ينصف الحزبيين؛بل أضاف إلى إفكهم إفكًا آخر،وبالله التوفيق."
الشيخ أحمد بن يحيى النّجمي رحمه اللّه
الفتاوى الجليّة
السّؤال رقم 63
———————————–
(1)الحديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب المناقب، باب: علامات
النبوةفي الإسلام. وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب بيان الزمنالذي
لا يقبل فيه الإيْمان من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه.
(2)الحديثأخرجه أبو داود في كتاب السنَّة باب شرح السنَّة،
وقالعنه الألباني: حديثٌ حسنٌ صحيح. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده في كتاب مسند الشاميينباب
حديث معاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عن،وأخرجه الإمامالدارمي في كتاب السِّير،باب:
في افتراق هذه الأمة، وكل هذه الروايات مروية عنالصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان،
وأخرجه الإمام بن ماجه في سننه في كتاب الفتن،باب: افتراق الأمم، وذكر الألباني بأنَّ
هذا الحديث صحيح انظر صحيح ابن ماجه،وأخرجه الإمام أحمد كذلك في مسنده في كتاب مسند
المكثرين عن الصحابي الجليل أنس بنمالكٍ رضي اللّه عنه ، وكلَّهذه الروايات وردت فيها
بلفظ: "الجماعة"أمَّاالروايات الَّتِي وردتبلفظ: "ماأنا عليه وأصحابي"فقدوردت
عن الصحابي الجليل عبد الله بنعمر -رضي الله عنهما- في المستدرك على الصحيح للإمام
الحاكم -رحمه الله- في كتاب العلمرقم الحديث (8127 ج1/ 218) طبعة دار الكتب العلمية
طبعة (1411) وأخرجه كذلك الإمامالترمذي -رحمه الله- في كتاب الإيْمان عن رسول الله
صلّى اللّه عليه وسلّم باب:ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلاَّ الله.
(3)الحديث أخرجهالإمام الترمذي في كتاب العلم، باب: ما جاء
في الأخذ بالسنة وإجتناب البدع، وأبوداود في كتاب السنة، باب: لزوم السنة، وابن ماجه
في المقدمة، باب: إتباع سنة الخلفاءالراشدين المهديين، وأحمد في مسند الشاميين برقم
الحديث (16692) والدارمي فيالمقدمة، باب: اتباع السنة، والحديث قد صححه الألباني
-رحمه الله- في صحيح الجامع (ج1 / 499 برقم 2549) وأحال إلى
الإرواء برقم (2455) وشرح الطحاوية (501 و 715) والسنة (31و 54) وقال محقق الإبانة
الكبرى الشيخ رضا بن نعسان معطي(الكتاب الأول الإيْمان ج1/ 305): الحديث صحيح صححه
كماتبين جماعةٌ من أكابر المحدثين، وحسنه بعضهم، ولَم يطعن فيه طاعن، وإن حصل ذلكفي
بعض طرقه.
(4)وأمَّاورود الحديث فيه بلفظ "الطائفة"كما في
هذه الصفحة، فقد أخرج هذه الرواية الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة،باب: قوله
صلّى اللّه عليه وسلّم:لا تزالطائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم
وكذافي كتاب الإيْمان،باب: نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة
نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وأخرجبنحوه أيضًاالبخاري بدون ذكر لفظ الطائفة في
كتاب العلم باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه فيالدين، وفي كتاب فرض الخمس، باب: قول
الله تعالى ﴿فأنلله خمسه وللرسول﴾ يعنِي:للرسول قسم ذلك قال رسول اللهصلّى اللّه عليه
وسلّم : إنَّما أناقاسم وخازن والله يعطيوفيكتاب المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم
النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم آيةفأراهم انشقاقالقمر، وفي كتاب الإعتصام بالكتاب
والسنة باب قول النَّبِي صلّى اللّه عليه وسلّم: لا تزال طائفةمن أمتي ظاهرين على الحقيقاتلونوهم
أهل العلم، وكتاب التوحيد، باب: قولالله تعالى: ﴿إنَّماقولنا لشيء إذا أردناه أن نقول
له كن فيكون﴾.
(5)الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، باب: الفتن، باب:
ذكر ابن صياد من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
(6)الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيْمان, باب: في قولهصلّى
اللّه عليه وسلّم:نور أنى أراهوفي قوله: رأيت نورا.
(7)هذه الرواية لَم أجد تخريجها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق