السبت، 2 فبراير 2013

لـمـاذا فـارق الأبـاضـية جـمـاعـــة المـسـلـمـين ؟



لقد كان ظهور الفرق العقدية والفكرية في الأمة الإسلامية خاضعاً لأسباب داخلية عاشها المسلمون في مراحل نشأة هذه الفرق .
ولعل أول أسباب ظهور هذه الفرق يتمثل فيمـا عاشه بعض المسلمين من انحـراف عن المنهج الإسلامي الصحيح والمحجة البيضاء ، فقد تضمن الكتاب والسنة كُل ما يهدي المسلمين إلى طريق الحق ، ولذا فهما معيـار الاستقامة وعدم الانقسام على النفس ، ولكن بعض المسلمين تركـوا المنهج الواضح الذي رسمه الشارع الأعظم وحـادوا عن منهج أهـل السنة والجمـاعة من سلف الأمة الصالح ، وركنوا إلى بعض التصورات العقلية بمنأى عن الهـداية العقدية الواردة فيهمـا فضلوا وأضلوا . وسنرى مثالاً لذلك بعض الفرق التي نشأت في أواخر عهد الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية .
كذلك فإن من أسباب ظهور هذه الفرق إتاحة بعض المسلمين الفرصـة للتأثير الأجنبي فيهم من خلال الثقافات الوافدة التي استطاعت أن تنفذ إلى بعض فئات المجتمع الإسلامي الهامة فتأثرت وأثرت .
وساعد على ذلك دخول الحاقدين ساحة التأثير في المنهج الإسلامي ، فبدأ نوع من الاستقطـاب لقطاع كبير من المسلمين فانحرفوا بعقيدتهم ، وبدؤوا يضعون بعض المبادىء الهدامة التي واكبت مسيرتهم . لذا فقد كان إعطاء الفرصة للتأثير الأجنبي ـ سواء من خلال الثقافات الوافدة أو من خلال الحاقدين ـ أثر هام في تكوّن هذه الفرق .
وإذا كان العاملان السابقان قد أوجدا - مع غيرهما - مناخ التفرق وساعدا على وجوده وتغلغله في المجتمع إلا أن هناك عاملاً ثالثاً ساعد على استمرار هـذا التفرق ، ويتمثل هذا العامل في ركون بعض المسلمين إلى السلبية وعدم قيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حيث لم يسعوا سعياً حثيثاً لرأب الصدع واستشعار المعنى العميق للوحدة الإيمانية وما تستلزمه من محبة وأخوة .
ومع أن الأصل هو استفادة الأمة من دروس الماضي ، إلا أن العصر الحاضر يشهد بدوره - وبكل أسف - تفرقاً جديداً وظهور فرق فكرية جديدة ، ولعل مرجع ذلك هو عدم استفادة الأمـة من دروس الماضي ومن ثم عدم تجدد التزامها بالإسلام وعدم الوقوف صفاً واحداً على كلمة واحـدة هي منهج الله سبحانه ، منهج أهل السنة والجماعة ، وتفويت الفرصة على أعداء الإسلام ، وهكذا يعيد التاريخ نفسه ، للأسف الشديد ، بين كثير من قطاعات المسلمين .
وإذا عدنا أدراجنا إلى البدايات الأولى لظهور الفرق في الإسلام فإنه يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أواخر عصر الخلافة الراشدة فلقد نشأت الفرق الإسلامية في أواخر عصر الخلفاء الراشدين، وتبلورت أفكارها في العصور التالية ، ثم تعمق وجود هذه الفوارق لأسباب لاحقة .
أما في عهد الرسالة وبداية عهد الخلفاء الراشدين فقد كان المسلمون يشكـلون وحدة حقيقية ، عقيدة وفكراً وجماعة ، وإذا ظهر خلاف ما في الرأي ، فسرعان ما ينتهي إلى وفاق ، بسبب الاحتكـام المباشر إلى الكتاب والسنة .
وبدأت الفتن والفرقة بين المسلمين في أواخر عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث جأر البعض بالشكوى من ولاة عثمان ثم بدأت الشكوى من عثمان ذاته بمقولة : إنه يولي العمـال من ذوي رحمه ، ثم تحولت الشكوى إلى الطعن في دينه على يد بعض المارقين الضالين .
ثم قُتل عُثمان رضي الله عنه مظلوماً بيد فئة ظالمة غُرر بها .. ففتح بذلك باب القتل والقتـال بين المسلمين .
وبعد تولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة ، اتهمه البعض بأنه مالأ قتلة عثمان ، ولم يقتص منهم ؛ فوقع القتال بين علي وبين الزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم جميعاً . ثم وقع قتال بين علي ومعاوية وانتهى بواقعة التحكيم المعروفة .
وبعد التحكيم كانت البداية الفعلية للافتراق في الأمة بظهور الخوارج والشيعة .
وكانت الأولى الخوارج : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( كان أول من فارق جمـاعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون ) .
وقال : ( وهم أول من كفّر أهل القبلة بالذنوب ، بل بما يرونه هم من الذنوب ، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك ) . وسموا بالناصبة أيضاً لمناصبة علياً رضي الله عنه وآله العداء ، وصرّحوا ببغضهم . وظهروا في 10 من شهر شوال عام 37 ببيعتهم ( عبد الله بن وهب الراسبي ) .
الثانية : الشيعة : أي من ادعوا أنهم شيعة عليّ وأبناؤه ، وقد افترقوا على فرق عدة أقلها غلّواً من قال منهم بأن عليًا أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر مثل الزيدية .
وظهر بجانب مسألة التكفير مسألة القدر التي قال بهـا معبد الجهني في آخر القرن الأول ، وكثر الكلام حولهما في آخر عهد علي بن أبي طالب .
ثم ظهرت المرجئة في آخر القرن الأول كذلك . ثم ظهر التعطيل على يد الجعد بن درهم والجهم بن صفوان في أول القرن الثاني الهجري .
ثم نادي جهم بن صفوان في أوائل القرن الثاني الهجري بالجبر وهو الذي قال : لا إرادة للإنسـان بجوار إرادة الله .
وظهرت المعتزلة التي تنادي بالإرادة الإنسانية المطلقة ، لأنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان حراً مختاراً وهذه الحرية هي أساس التكليف وعليها يترتب الحساب والعقاب .
ثم أثيرت مسألة صفات الله وكلامه ، ومسألة خلق القرآن ، أهو مخلوق أم قديم ؟ أثار ذلك الجهم ابن صفوان والجعد بن درهم في العصر الأموي ، ثم اشتد الأمر في العصر العباسي، فكان امتحان إمام أهل السنة أحمد بن حنبل .
وتعددت الفرق وتشعبت بتأثير كتب الفلسفة اليونانية والهندية التي ترجمت إلى العربية ، فأصبحت الفرق فرقاً متعددة ، وهكذا انقسمت المعتزلة إلى فرق كثيرة . منها : الواصلية ورائدها واصل بن عطاء ، والهذلية ورائدها أبو الهذيل العلاف .
وانقسمت الشيعة إلى فرق أقل غلواً وفرق غالية انحرفت كلياً عن طريق الإسلام مثل الإسماعيلية والنصيرية والدروز وغيرهم .
ثم ظهرت الأشاعرة والماتريدية للتصدي للفلاسفة والباطنية والرافضة ولكسر سورة المعتزلة الجهمية ، فكان لهم جهادهم المشكور إلا أنه كان لاستخدامهم مناهج الفلاسفة والمتكلمين ومحاولة التوفيق بينهم وبين أهل السنة والجماعة أثره البالغ في تأثرهم ببعض أفكارهم وعقائدهم على ما سيأتي بيانه .
وإن اهتمامنا في هذه الموسوعة بهذه الفرق ودراستها بشكل منهجي متقن ، ليس لإحياء فكرها بعد أن مات بعضها واندثر ، ولا من باب الترف الفكري ، وإنما لأسباب نجملها فيما يلي :
1. إن ذكر الفرق تاريخياً له أصوله في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فقد توسع القرآن في ذكر قصـص الأمم البائدة صالحها وسيئها ، وذكر أقوال رؤسائهم وقادتهم ، وما عملوه تجاه رسل الله ، وكذلك قـص علينا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من قصص الامم السالفة والدروس المستفادة من ذلك .
2. أن تبيان هذه الفرق صحيحها وفاسدها ، مستقيمها ومنحرفها ضرورة حتى يكون المسلم على بينة من عقائدها ، وحتى لا يخـدع بكلامهم وفعـالهم إن ذكرت في كتب المتأثرين بهذه الفرق أو كتب أتباعهـا المعاصرين .
3. كثير من أفكار هذه الفرق تتجدد وتلبس ثياباً أخرى غير التي كانت تلبسها سابقاً ، أو تتسمى بأسماء براقة تغري الذي يشاهدها أو يسمع بها ، والمسلم الحصيف هو الذي يعرف التشابه بين الأفكار القديمـة والأفكار الحديثة .
4. والهدف من معالجة هذه الفرق هو أن يكون عند المسلم المثقف مرجع تاريخي مركز ومختصر يرجع إليه عندما يحتاج إلى الاطلاع على هذه الفرق وعقائدها وأفكارها وأماكن انتشارها .
هذا مع العلم أن كثيراً من هذه الفرق لا زالت تعيش وبعضها يتوسع على حساب الإسلام مثل فرقة الشيعة والروافض التي صار لها دولة تدعو إلى أفكارها بكل الوسائل العلمية والثقافية وغزت بمدارسها ودعاتها قارة أفريقيا والشرق الأقصى .
وبعد :
فهذه نقاط هامة لا بد من ذكرها في مقـدمة سرد الفرق الإسلامية المنحرفة .. داعين المولى تعالى أن يوفق المسلمين إلى طريق الإسلام القويم ، وأن يوحد أفكارهم وعقائدهم على طريق الكتاب والسنة حتى يعيدوا ماضيهم التليد الذي كانوا فيه أعزاء ، أقوياء ، في مركب الأمة الواحدة .

الخوارج :
بدعة الخوارج هي المثل الواقعي الحيّ على أن الإخلاص وحده لا يكفي في صحة العمل ، وصلاح المنهج ؛ بل يلزم مع الإخلاص متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدم الخروج على فهم السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين .
لقد كان الخوارج قومـًا ذوي عبادة ربما فاقت في بعض صورها عبادة الصحابة ؛ ولكنهم مع ذلك ضلُّوا سبيل الهدى لما ظنوا أنهم أعلم من الصحابة ، وقد اتفقت كلمة الأمة على ضلالهم ووجوب قتالهم ، كما فعل عليُّ رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الأطهار الأبرار .
تعتبر بدعة الخوارج أول بدعة حدثت في الإسلام ، قال الإمام ابن تيمية : كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع " الخوارج المارقون " وقد صح الحديث فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه أخرجها مسلم في صحيحه ، وخرج البخاري منها غير وجه.
وقد قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه ولم يختلفوا في قتالهم (الفتاوى 3/349) .

مسميات الخوارج
الخوارج جمع خارج ، وهو الذي خلع طاعة الإمام الحق ، وأعلن عصيانه ، وألب عليه ؛ بعد أن يكون له تأويل ، وعلماء الشريعة يسمونهم بغاة ، ومن مسمياتهم أيضـًا :
الحرورية : لنزولهم في مكان يسمى حروراء بعد انفصالهم عن جيش سيدنا على رضي الله عنه .
النواصب : لمناصبتهم العداء لسيدنا عليٍّ رضي الله عنه ومن معه.
الحكمية : لقولهم بعد التحكيم لا حكم إلا لله .
المارقة : لمروقهم من الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة .

جذور بدعة الخوارج :
أول الخوارج وأصلهم وأقبحهم حالاً هو ذو الخويصرة التميمي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اعدل ، أو قال : اتق الله يا محمد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن يطع الله إن عصيته ؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنونني ؟ ثم أخبر أنه يخرج من ضئضئه ( ذريته ) الخوارج كما في صحيح الإمام مسلم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو باليمن بذهيبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس الحنظلي ، وعيينة بن بدر الفزاري ، وعلقمة بن عُلاثة العامري ، ثم أحد بني كلاب ، وزيد الخير الطائي ، ثم أحد بني نبهان ، قال : فغضبت قريش فقالوا : أيعطي صناديد نجد ويدعنا ؟! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إني إنما فعلتُ ذلك لأتألَّفهم ( أستميلهم إلى الإسلام بما يحبونه من المال حتى يتم تفهمهم له ) ] ، فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين ،غائر العينين ، ناتئُ الجبين ، محلوق الرأس فقال : اتق الله يا محمد .. قال : فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم : [ فَمَنْ يُطِعِ الله إن عصيْتُهُ ؟ أَيأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأرض ولا تأمَنُوني ؟ ] ، ثم أدبر الرجل ، فاستأذن رجل من القوم في قتله ـ يروْن أنه خالد بن الوليد ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إنَّ من ضِئْضئ (من عنصره وذريته ) هذا قومـًا يَقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم يقتُلُون أهل الإسلام ويدعُون أهل الأوثان يَمْرُقُون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ ، لئن أدركتُهُم لأقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عـادٍ ]( صحيح مسلم 7/161 ، والبخاري 9/129) .
وفي رواية عنه أيضـًا ـ بَعد أن ذكر قصة هذا الرجل ـ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا رسول الله ، ائذن لي فيه أضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ دَعْهُ فإن لهُ أصحَابـًا يَحْقِرُ أحدُكُم صلاتـهُ مع صلاتهم وصِيامَهُ مع صيامهم ، يقْرؤون القرآن لا يجاوزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ ؛ يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ(حديدة السهم ) فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ ، ثم يُنْظَرُ إلى رِصَافِهِ(مدخل النصل من السهم ) فلا يُوجدُ فيه شيءٌ ، ثم يُنْظَرُ إلى نَضِيِّهِ فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ ـ وهو القدح ـ ثم ينظر إلى قُذَذِهِ ـ ريش السهم ـ فلا يوجد فيه شيءٌ ،سبق الفَرْثَ والدم ، آيَتُهُم رجلٌ أسودُ إحدى عَضُدَيْهِ مثلُ ثَدي المرأة ، أو مثلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ ، يَخْرُجُون على حِينِ فُرْقَةٍ من الناس ] .
قال أبو سعيد : فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد ، فأُتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت .

خروجهم على عليٍّ رضي الله عنه :
قال ابن الجوزي : فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله ، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وذلك أنه لما طالت الحرب بين معاوية وعلي رضي الله عنهما رفع أصحاب معاوية المصاحف ودعوا أصحاب علي إلى ما فيها وقال : تبعثون منكم رجلا ونبعث منا رجلا ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله عز وجل ، فقال الناس قد رضينا فبعثوا عمرو بن العاص فقال أصحاب علي : ابعث أبا موسى ، فقال عليّ : لا أرى أن أولي أبا موسى هذا ابن عباس قالوا لا نريد رجلا منك فبعث أبا موسى وأخر القضاء إلى رمضان فقال عروة بن أذينة : تحكمون في أمر الله الرجال لا حكيم إلا الله ورجع عليّ من صفين فدخل الكوفة ولم تدخل معه الخوارج فأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا وقالوا لا حكم إلا لله ، وكان ذلك أول ظهورهم ، ونادى مناديهم أن أمير القتال شبيب بن ربعي التميمي وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري ، وكانت الخوارج تتعبد إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه وهذا مرض صعب .

مناظرة ابن عباس للخوارج :
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
إنه لما إعتزلت الخوارج دخلوا دارًا وهم ستة آلاف وأجمعوا على أن يخرجوا على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ، فكان لا يزال يجيء إنسان فيقول يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك فيقول دعوهم فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفعلون ، فلما كان ذات يوم أتيته صلاة الظهر فقلت له يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم فقال إني أخاف عليك فقلت كلا ، وكنت رجلا حسن الخلق لا أوذي أحدا ، فأذن لي فلبست حلة من أحسن ما يكون من اليمن وترجلت فدخلت عليهم نصف النهار فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا : جباههم قرحة من السجود ، وأياديهم كأنها ثفن الإبل ، وعليهم قمص مرحضة ، مشمرين ، مسهمة وجوههم من السهر فسلمت عليهم فقالوا مرحبا بابن عباس ما جاء بك ؟ فقلت : أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ومن عند صهر رسول الله وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم فقالت طائفة منهم لا تخاصموا قريشا فإن الله عز وجل يقول : ( بل هم قوم خصمون ) فقال اثنان أو ثلاثة لنكلمنه فقلت : هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله والمهاجرين والأنصار وعليهم نزل القرآن وليس فيكم منهم أحد وهم أعلم بتأويله قالوا: ثلاثا، قلت: هاتوا قالوا: أما أحداهن فانه حكم الرجال في أمر الله وقد قال الله عز وجل : ( إن الحكم إلا لله ) فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل ؟ فقلت : هذه واحدة، وماذا؟ قالوا: وأما الثانية: فإنه قاتل وقتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا مؤمنين فلم حل لنا قتالهم وقتلهم ولم يحل لنا سبيهم؟ قلت : وما الثالثة ؟ قالوا فإنه محا عن نفسه أمير المؤمنين فإنه إن لم يكن أمير المؤمنين فإنه لأمير الكافرين قلت : هل عندكم غيرهذا؟ قالوا: كفانا هذا .
قلت لهم : أما قولكم حكَّم الرجال في أمر الله .. أنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض هذا فإذا نقض قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم ، قلت: فإن الله قد صير من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب وتلى هذه الآية: ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) إلى آخر الآية، وفي المرأة وزوجها: ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) إلى آخر الآية، فنشدتكم بالله هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وفي حقن دمائهم أفضل أم حكمهم في أرنب وبضع امرأة فأيهما ترون أفضل ؟ قالوا : بل هذه. قلت خرجت من هذه؟ قالوا نعم .
قلت : وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم .. فتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها؟!! فوالله لئن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام، ووالله لئن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها لقد خرجتم من الإسلام، فأنتم بين ضلالتين لأن الله عز وجل " قال النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم .
قلت : وأما قولكم محا عن نفسه أمير المؤمنين.. فأنا آيتكم بمن ترضون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين -أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو- فقال لعلي رضي الله عنه: اكتب لهم كتابا.. فكتب لهم عليٌّ : هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله فقال المشركون: والله ما نعلم أنك رسول الله لو نعلم انك رسول الله ما قاتلناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم اللهم إنك تعلم أني رسول الله امح يا علي هذا واكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله . فوالله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه.. قال فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فقتلوا .

بغي الخوارج وقتال المسلمين لهم :
واجتمعت الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينسبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي إيثارها عناء آثر عند من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق فاخرجوا بنا .
ولقي الخوارج في طريقهم عبد الله بن خباب فقالوا: هل سمعت من أبيك حديثا يحدثه عن رسول الله تحدثناه؟ قال نعم سمعت أبي يحدث عن رسول الله أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول . قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك تحدثه عن رسول الله قال نعم.. فقدموه إلى شفير النهر فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل، وبقروا بطن أم ولده عما في بطنها وكانت حبلى، ونزلوا تحت نخل مواقير بنهروان فسقطت رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فيه، فقال أحدهم: أخذتها بغير حدها وبغير ثمنها فلفظها من فيه ، واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه به يجربه فيه فقالوا: هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه في ثمنه.
فلما عاث الخوارج في الأرض فسادا ، وقتلوا عبد الله بن خباب وزوجته بعث إليهم عليّ رضي الله عنه أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله ، فناداهم ثلاثا كل ذلك يقولون هذا القول فعند ذلك قال علي رضي الله عنه لأصحابه دونكم القوم فما لبثوا أن قتلوهم .

وقد روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن وهب الجهني: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع عليٍّ رضي الله عنه ـ الذين ساروا إلى الخوارج ـ فقال عليٍّ رضي الله عنه : أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ يَخرج قومٌ من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيءٍ، ولا صلاتُكُم إلى صلاتهم بشيءٍ، ولا صيامُكُم إلى صيامهم بشيءٍ، يقرؤون القرآن ويحسبون أنه لهم وهو عليهم ، لا تُجاوِز صلاتهم تَرَاقِيهم ـ المراد عدم انتفاعهم بالعبادة ـ يَمْرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهم من الرَّميَّةِ، لو يعلم الجيش الذين يُصيبُونهم ما قُضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتَّكَلُوا عن العمل، وآيةُ ذلك أن فيهم رجلاً له عضدٌ وليس له ذراعٌ ، على رأس عَضده مثل حلمة الثدي عليه شعراتٌ بيضٌ ] فتذهَبُون إلى معاوية وأهل الشام وتترُكون هؤلاء يخلُفُونكم في ذرارِيكُم وأموالكم؟ والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم ، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام ، وأغارُوا في سَرْحِ الناس ـ أي الأنعام التي ترعى ومن يرعاها ـ فسيروا على اسم الله "( صحيح مسلم ).

قال سلمة بن كهيل( أحد رواة الحديث ) : فنزَّلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال : فمررنا على قنطرة ، فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي ، فقال لهم : ألقوا الرماح وسلّوا سيوفكم من جفونها ، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراءَ ، فرجعوا فوحشوا برماحهم ـ رموا بها عن بعد ـ وسلوّا السيوف ، وشجرهم الناس برماحهم ـ أي طعنوهم ـ قال : وقتل بعضهم على بعض ، وما أُصيب من الناس يومئذ إلا رجلان ، فقال عليٍّ رضي الله عنه : التمسوا فيهم المُخدَج ـ الذي تقدم وصفه بأنه له عضد وليس له ذراع ـ فالتمسوه فلم يجدوه ، فقام عليٍّ بنفسه حتى أتى أُناسـًا قد قتل بعضهم على بعض ، قال : أخروهم ، فوجدوه مما يلي الأرض ، فكبر ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله ، قال : فقام إليه عبيدة السلماني فقال : يا أمير المؤمنين ، آلله الذي لا إله إلاّ هو ، لسمعتَ هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، فقال : أي والله لا إله إلا هو ، حتى استحلفه ثلاثـًا وهو يحلف له .

قتلهم للإمام علي رضي الله عنه :
ثم اجتمع عبد الرحمن بن ملجم بأصحابه وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا: والله ما قنعنا بالبقاء في الدنيا شيء بعد إخواننا الذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم فلوا أنا شرينا أنفسنا لله والتمسنا غير هؤلاء الأئمة الضلال فثأرنا بهم لإخواننا وأرحنا منهم العباد ، وانتدب ثلاثة نفر من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو ابن بكر التميمي فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا لنقتلن هؤلاء الثلاثة عليا ومعاوية وعمرو بن العاص ونريح العباد منهم، فقال ابن ملجم: أنا لكم بعلي ، وقال البرك: أنا لكم بمعاوية ، وقال عمر: وأنا لكم بعمرو فتواثقوا ألاّ ينقض رجل منهم رجلا عن صاحبه .

فقدم ابن ملجم الكوفة فلما كانت الليلة التي عزم على قتل عليٍّ رضي الله عنه فيها خرج علي رضي الله عنه لصلاة الصبح فضربه فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه فقال علي رضي الله عنه لا يفوتنكم الرجل فأخذ ، فقالت أم كلثوم : يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين .

فلما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم ليقتل فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم فسمل في عينيه بمسمار محمى فلم يجزع فجعل يقرأ : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ) حتى ختمها وإن عينيه لتسيلان، فعولج على قطع لسانه فجزع فقيل له لم تجزع؟ فقال أكره أن أكون في الدنيا مواتا لا أذكر الله.. وكان رجلا أسمر في جبهته أثر السجود لعنة الله عليه .

قال صاحب الكشاف الفريد 1/69 : " وقد انقرض الخواج إلا طائفة من الإباضية تقيم جهة عُمان ، وفي جزيرة جربة تجاه تونس ، وفي جنوبي الجزائر ، وغربي ليبيا .

قال الإمام ابن حزم الظاهري : وشاهدنا الإباضية عندنا بالأندلس يحرمون طعام أهل الكتاب، ويحرمون أكل قضيب التيس والثور والكبش، ويوجبون القضاء على من نام نهارًا في رمضان فاحتلم، ويتيممون على الآبار التي يشربون منها إلاّ قليلاً منهم .

اختلاف الخوارج وأهم فرقهم :
وقد اختلفت الخوارج فيما بينها حتى صارت عشرين فرقة ، كل واحدة تكفر سائرها .. وهذه بعض أسماءهم :
1- المحكّمة الأولى : الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين جرى أمر المحكّمين ، ورأْسهم عبد الله بن الكواء ، وعتّاب بن الأعور ، وعبد الله بن وهب الراسبي ، وعروة بن جرير، ويزيد بن أبي عاصم المحاربي ، وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية.
2 - الأزارقة : أتباع نافع بن الأزرق ، أكثر الفرق عددًا وأشدهم شوكة .
3 - النجدات : أتباع نجدة بن عامر الحنفي .
4 - الصفرية : أتباع زياد بن الأصفر .
5 - العجاردة : أتباع عبد الكريم بن عجرد ، وافترقت العجاردة إلى عدة فرق منها :
6 - الخازميّة .
7 - الشعيبية .
8 - المعلومية .
9 - المجهولية : أصحاب طاعة لا يراد الله بها .
10 - الصلتية : أتباع صلت بن عثمان ، وقيل : صلت بن أبي الصلت .
11 - الشبيبية .
12 - الشيبانية .
13 - المعبدية .
14 - الرشيدية .
15 - المكرمية .
16 - الحمزية .
17 - الشمراخية .
18 - الإبراهيمية .
19 - الواقفـة .
20 - الإباضية : أتباع عبد الله بن إباض ، وافترقت الإباضية معظمها فريقان : حفصية وحارثية ، أما اليزيدية من الإباضية ، والميمونية من العجاردة فإنهما من غلاة الكفرة الخارجين عن فرق الأمة .

أهم بدع وضلالات الخوارج :
هذا ويجمع الخوارج على وجوب الخروج على الإمام الجائر ، حتى إنهم ساعدوا عبد الله بن الزبير ـ وليس منهم ـ لما رأوه خارجـًا على يزيد ، لاعتقادهم الجور في يزيد ، كما يجمعون أيضــًا على إكفار الحكمين ومن رضي بحكمهما ؛ حتى إنهم أقروا على أنفسهم بالكفر إذ أقام عليهم ابن عباس الحجة ثم قالوا : إنَّا تائبون ، وهم يرون تكفير عليّ ومعاوية وعثمان وأصحاب الجمل ـ رضي الله عنهم ـ .
أما التكفير بارتكاب المعاصي فلم يجمعوا عليه .

وهذه أهم بدعهم وضلالهم :
1 - الخروج على الإمام الحق ، مهما كان صلاحه وعدله ، إذا فعل ما يرونه مخالفة ، كما حدث ممن اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما حدث منهم مع علي رضي الله عنه ، بل مع عثمان رضي الله عنه قبله .
2 - الحكم على من خالفهم بالكفر ـ حيث خالف القرآن في زعمهم ـ من الخلفاء الراشدين ، فضلاً عن غيرهم ، وجواز قتله ، بل وجوبه كما حدث في قتلهم عبد الله بن الأرت وغيره .
3 - تجويز الإمامة في غير قريش ، والقول بعدم اختصاصها بهم .
4 - إنكارهم تحكيم الرجال ، وادعاؤهم أنه كفر ، قال الشهر ستاني : ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ، ويقدمون ذلك على كل طاعة ، ولا يصحِّحون المناكحات إلا على ذلك ، ويكفرون أصحاب الكبائر ، ويرون الخروج على الإمام ـ إذا خالف السنة ـ حقــًا واجبــًا .
5 - ردّ السنة إذا لم يرد ما يؤيدها صراحة في القرآن .
قال ابن تيمية رحمه الله : والخوارج لا يتمسكون من السنة إلاّ بما فسر مجملها دونما خالف ظاهر القرآن عندهم ، فلا يرجمون الزاني ولا يرون للسرقة نصابــًا.
قلت: ولا زالت الأيام تقذف لنا من هذه الفرقة أذيالا بعد أذيال ( كجماعة التكفير والهجرة، والتوقف والتبين، وغيرها ) وما زال الناس يكتوون بأفكارهم ويعانون من أفعالهم، وما زالوا يوقعون الغر بعد الغر ممن لم يعلموا مذاهب السلف الكرام ولم يتمسكوا بهديهم وفهمهم ، والله نسأل أن يحفظ المسلمين من كل سوء .. آمين.

انتهى البحث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق